إختزال قلب

2014/03/17 التسميات:
إختيار الرحيل كان قرارها ، ولأنه لم يفهم يوماً سبب كتابتها لتلك الرواية الحمقاء ، والتى خطت نهايتها هجراً وغدراً ، وخيانة ، قرر أن يذهب إليها ويسألها .. لم يهتم بتقاليد ولا بعرف ، ولم يبال بمظهره أمام المجتمع ولا بمستواه ...
قادنه قدماه مشياً إليها ، وفى كل خطوة كان كمن يمشى على جمر ، يحرق قلبه وعقله .. جمر لا يرحم قدماه العاريتان قهراً وذلاً ذهوله من رحيلها المباغت ، محى كل منطق وعقلانية من رأس المفكر .. وكالمدمن بحث عنها ، بين المحتفلين معها ، بنشر تلك الرواية التى ذبحت عمره ، بحروف من دم، وكأنها هى المخدر الذى سيسكن ألمه، وكأنها الطبيب الذى سيجرى له جراحة ، ليستأصل ذلك الورم فى قلبه .. أين هى .. تلك الحنونة الطيبة .. تلك الرقيقة .. الأم فى وقت الوجع .. الحبيبة فى وقت الهنا .. و الطفلة فى وقت المرح.. تلك التى قدمت له الفرح على وريقات الورود بحب ، أين هى حبيبته ... صديقته!! شريكته !! .. وفى اللحظة التى كاد فيها ، يفقد الأمل ، فى رؤيتها ، ولو لمرة أخيرة ، فقط لكى يفهم سرها .. وأسباب قتلها لمشاعره بمنتهى الأذى ، رآها .. ها هى هناك بطلة قصته الطويلة .. بطلتها المميزة ، ورونقها الفريد ، وشعرها الذهبى المسترسل على كتفيها ، وعيناها الناعمتان الناعستان ... تباً .. تباً.. تباً ... كيف له أن يعشق إمرأة ، طعنته غدراً إلى هذا الحد .. كيف له أن يذوب فى هوى إنسانة ، مزقات ورقات قصتهما كما الوهم ، وألقت بها أدراج الخيانة ..
تحركت قدماه رغماً عنه ، تقوده إليها ، ودلت شعيرات ذقنه النامية ، وبذته غير المرتبة ، عن مستوى الإنحدار الذى وصلت حاله إليه بدونها ، بعد أن كانت طلته المميزة ، تلفت الإنتباه ، إليه كما لو كان نجم سينمائى تفوق شهرته السحاب .. نظر إليها بعمق .. كانت تضحك !! .. تلك الـ ... كيف لها أن تضحك ، وهو ينهار منذ أن هجرته .. كيف لها أن تفرح ، وهو يضيع فى الصور ، كلما وقعت عيناه على لمعة عينيها ، أو إبتسامتها .. يوماً ما لم تكن تبتسم إلا له ، ولم تكنتضحك إلا معه ، ولم تكن تحلم إلا به .. ما كان لها أن تكتب كلماته الرائعة ، وتحولها على مدى السنوات ، إلى قصص وقصاصات شعرية ، إلا بعد كل لقاء به .. رومانسية حبهما ، كانت لها كالغذاء النفسى ، ولولاه ما نشرت كتابها ، ما كتبت كلماتها ، ما كنت نورا عواد ، تلك القاصة الصاعدة الرائعة ، التى تهز جملة فى كتبها ، الجبال رومانسية وشغفاً..
كما الاعصار إجتاحها ، أدراها كما لو أنه ينوى أن يطيرها إلى آخر الدنيا ، ولم يبال بشهقتها ، ولا بنظرتها الذاهلة المحدقة ، كل ما لمسه من رد فعل ، كان الحنين الحزين المفاجئ .. ربما هو قد جن بالفعل ، ولكنه أكيد أنه قرأ الألم لأجله ، فى عينيها .. تجمهر الناس من حوله .. صرخ مدير أعمالها مستدعياً الأمن ..

"سؤال واحد فقط أريد إجابة واضحة له "
أشارت للأمن أن يبقوا بعيداً ، ثم أدارت عيناها له ، فعاد يهمس بغضب حاقد :
الحقيقة! .. لماذا تركتنى؟!!
وكأن سؤاله عبارة عن ليل طويل لا نهار له ، أظلمت عيناها وملامحها وتأملته بحزن واضح هذه المرة .. ودون أن يدرك تسللت شفقة حانية إلى صدره نحوها ، وكأنه هو من أخطأ بحقها ، وليس العكس ، ثم عاد وتذكر لحظة الرحيل .. كلماتها التافهة ، والتى لا تفى الموقف حقه .. وكأنها تستقيل من وظيفة لتلتحق بأخرى .. أى عقل هذا الذى تفكر به .. كيف تتركه على هذا النحو ، ولأسباب هزيلة .. هو من صنعها .. هو من قدم لها كل حياته لتنحتها كتمثال من الحجر ، ثم تمنحه الحياة ليغدو بشراً من لحم ودم .. غص بكلماته .. هل كان أعمى إلى هذا الحد ، هل كانت قادرة على التلاعب به ، بكل تلك البساطة ، ولم يمكنه يوماً أن يقرأها..
صوتها الناعم خرج هامساً مبحوحاً، وكأنها كانت تبكى فراقه لأسابيع ، منذ غادرته :
لقد طلبت منى ذلك .. يوم قلت أنك تخطط لزفاف ضخم .. ربما كنت تريد التلميح بأنك بدأت تفكر فى إرتباطنا معاً للأبد ، وبأنك سئمت حياة العزوبية ، والتقافز من مكان لمكان ، دون أن يكون لك الحق ، فى التحكم فى رحلاتى أسفارى ، ولكن .. أنا لا أريد هذا .. ربما لو كنت صبرت قليلاً علىّ ، لو كنت منحتنى الوقت لأحتفل بنجاحى الأخير ، فتزول نشوة النجاح ، فيكون بإمكانى أن أفكر بعقلانية ومنطق أكثر .. لو كنت فقط .. إنتظرت قليلاً .. فقط .. لبعض الوقت.. ربما .. ربما ...
حدق فيها بذهول .. لهفته على بيت يضمهما معاً ، كانت غلطته .. سنوات جمعتهما كأصدقاء ، ثم كأحباب .. لقد دعمها فى مهنتها المتقلبة ، حتى أنه دفع لدور النشر فى البداية ، لكى تنشر قصصها سراً ، ولم يحاول يوماً أن يفضح سره هذا أمامها ، مستمتعاً بالنصر يلمع فى عيونها ، ويوم قرر أن وقت المرح قد إنتهى ، وأنه يتوق لأن يكون روجاً ووالداً ، وأن يحمل يوماً طفله عالياً ، هاتفاً بحب أمه الجنونى ، يكون جزاءه الهجر والغدر .. هل إختصرت كل حبهما إلى هذا المعنى الهزيل ، وأختزلت قلبه من كتابها بنهاية مأساوية حمقاء .. الإحباط فى كل خلية منه ، جعلها تخفض عيناها خجلاً ، وهرباُ منه .. أفلتها أخيراً وتراجع خطوتان ، قبل أن ينحنى لها بإحترام مبالغ وقال :

مبارك لك نشر كتابك الجديد يا سيدتى ..

ثم إعتدل واققاً ودار يرحل بخطوات واثقة ، وقد إنفردت قامته ، بتلك الغطرسة القديمة ، كطاووس يزهو بريشه المنفوش .. ورغم هيئته المبعثرة ، تحول فجأة إلى نفس تلك الجاذبية الفطرية ، التى طالما لفتت الإنتباه له ، فى حين إنحنى ظهرها هى بخزى ، وإحساس قوى بالعار ، وقد تأكد لها اليوم ، أنها قد خسرته حقااً ..
وللأبد !!

0 التعليقات:

إرسال تعليق

 
موقع مجلة ابداع أون لاين الالكترونية © 2013 | برعاية : مدونة الذات لتطوير الذات | تطوير وتصميم : المصمم الرقمي